قصة الطباعة بالأحرف العربية قصة مثيرة، لماذا؟ إنها تعرضت لمغالطات عديدة وأثارت جدلاً طويلاً، أرخ لها بعض الكتّاب والمهتمين، منهم من أصاب فكان نتاجهم صحيحاً وموثقاً، ومنهم من لم يُصب فأتانا بروايات غير موثقة.
لا أخفي أن هذا الواقع أثار فضولي ودفعني إلى محاولة لم تكن سهلة وكانت مصادفة أن قرأت توضيحاً من القنصلية الهولندية في حلب موقعاً من حسين عصمت المدرّس في جريدة تشرين تاريخ 17/10/2005، مفاده أن مطبعة حلب العربية، أنشأها الأنطاكي «أثناسيوس الثالث دبّاس»، وكان المدرس أقام معرضاً لكتب الطباعة الحجرية الأولى، وبينها كتاب «المزامير» وهو الأول باللغة العربية في الشرق باكورة إنتاج مطبعة حلب عام 1706 وأيضاً كتاب «صخرة الشك» الأخير الصادر عام 1721 في حلب عن تلك المطبعة
وكان لي مصادفة ثانية، العودة إلى أبحاث وكتابات قديمة وحديثة، كان الفضل في جلها لنسيب أمضى سنوات طويلة، وبذل جهداً كبيراً في تقصي الحقيقة وهو انطوان قيصر دباس ـ بيروت، لبنان.
ثمرة هذا الجهد أربعة كتب (مخطوطات) قيد الطباعة، موثقة بمراجع عربية وأجنبية عديدة، وضعها مشكوراً بين يديّ، إنها دون شك تأريخ صادق أمين لفن الطباعة العربية، لنشوئه، سيرته ولتطوره. ہہہ
غدت الحقائق في المراجع المذكورة أمانة في عنقي عليّ أن أدفعها للنشر أو أذيعها. قرأت: «البطريرك أثناسيوس الثالث دباس الدمشقي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، رائد النهضة العربية، مؤسس أول مطبعة عربية لغة وحرفاً في المشرق».
ـ لكن المطبعة العربية في الغرب أسست وعملت في القرن السادس عشر وتابعت في القرنين السابع والثامن عشر، بينما لم تبرز الطباعة العربية في المشرق إلا بعد مرور حوالي قرنين ونصف على وجودها في أوروبا. في عام 1495 مُنعت طباعة اللغة التركية والفارسية بأحرف عربية من قبل بازاجيت الثاني Bazajet II، بينما لم يتحرك العثمانيون ولم يعترضوا حين أسس البطريرك دباس المطبعة العربية.
ہہہ ـ ألا يحق لنا، بل من واجبنا، أن نعرف حقيقة ظهور أول مطبعة عربية في المشرق؟
ـ من هو البطريرك أثناسيوس الثالث دباس الدمشقي؟ ترقى عائلة دباس بجذورها الأولى إلى إزرع ـ حوران الشام، وتاريخها يعود إلى القرن الرابع عشر 1386، وجدها الأول ـ عبد المسيح ـ سكن تلك المنطقة ثم انتقلت العائلة إلى دمشق وتفرعت وتوزعت بين القدس واللد وحيفا ويافا وبيروت والقاهرة..
نشأ البطريرك وترعرع في مدينة دمشق، وفي عائلة أغلى ما لديها إيمان راسخ بالله، احترام وحب للكنيسة الارثوذكسية الأنطاكية وفي مدينة القديس بولس، سمع نداء ربه فلباه في القدس وبذل نفسه للخدمة في سلك الكهنوت وراح يغتني بعطايا الله ونعمه. تتلمذ في دير القديس «سابا الكبير» في القدس الذي يعتبر ظاهرة مميزة في تاريخ الكنيسة، ومركزاً ثقافياً ولاهوتياً مهماً في القرنين السابع والثامن عشر، من هذا الواقع لا نستغرب اهتمام البطريرك وسعيه الحثيث في إنشاء مطبعة عربية في أبرشية حلب.
«نظر البطريرك العلامة إلى الإنسان وإلى ما يتوقع خالقه منه، أياً كان دينه أو مذهبه، وحثه على لقاء أخيه الإنسان، والاقتراب من الآخر بغية التعارف والتكامل المبنيين على احترام متبادل. فنظم لقاءات واجتماعات وحوارات لممثلي مختلف الكنائس وعقد حوارات هامة مع رجال الدين الإسلامي، وكان لهذه المبادرات الأثر الطيب في بناء علاقات مودة واحترام وتجاوز الخلافات لبلوغ ما يبني ويوحد بين أفراد الأسرة البشرية». كان رجل انفتاح علم وقداسة.
حياة البطريرك أثناسيوس حافلة بالشؤون الدينية والثقافية والإيمانية والترجمية والإبداعية التي يتعذر الإحاطة بها أو رصدها بمقال، وأرى من واجبي أن أركز على كيفية تأسيس المطبعة العربية إذ إنها على أهمية بمكان خاصة بمناسبة إطلاق «حلب عاصمة للثقافة الإسلامية» في العام 2006الذي قارب على الانتهاء. ہہہ
بأية صفة أطلق البطريرك دباس فكرة إنشاء مطبعة وتنفيذها؟ ـ تمت تسميته رئيس أساقفة في عام 1685 وأرسل إلى دمشق، ثم في العام نفسه بطريركاً فترأس أبرشية حلب، وفي عام 1705 انتخب رئيساً لكنيسة قبرص وعاش متنقلاً بين حلب وبين قبرص.
أول تجربة طبع باللغة العربية وبالحرف العربي ظهرت في عام 1701 بفضل أمير الفلاخ «قسطنطين برانكو فياني»، بناء على رغبة البطريرك الأنطاكي الأرثوذكسي الدمشقي أثناسيوس في دير «والدة الاله»، في بوخارست، وقد وفر الأمير الأموال لحفر الحروف العربية بكل دقة. كانت هذه المحاولة الأولى من مشروع البطريرك دباس الهادف إلى إقامة مطبعة عربية في الكنيسة الانطاكية، وكان أعرب عن حاجته إلى كتب دينية مطبوعة باللغة العربية.
هكذا بدأت حركة النشر العربي في بوخارست مع بداية القرن الثامن عشر ثم في إسبانيا وبعدها فيينا، الخ.. فبلغ عدد
الكتب المطبوعة بالعربية ستة وخمسين كتاباً. وكانت مطبعة بوخارست (رومانيا) تمهيداً لظهور المطابع العربية في المشرق: حلب، الشوير، جاسي (مولدوفا) وبيروت..
بعد انتخاب البطريرك الدباس رئيساً لكنيسة قبرص لم تتمكن مطبعة رومانيا من متابعة العمل بشكل جيد، أما الكتب المطبوعة بالعربية فقد وزعت مجاناً من قبله على كنائس انطاكية. عاد بعد ذلك إلى المشرق (بلاد الشام) استقر رئيساً على الكنيسة الانطاكية الارثوذكسية في مدينة حلب، وأنشأ مطبعة عربية جديدة (هدية من أمير الفلاخ) ونقل معه مجموعة مهمة من المخطوطات، وبدأت المطبعة بالعمل عام 1706.
تولى البطريرك مهمة الناشر إذ تعهد باختيار المخطوطات ومراجعتها قبل نشرها، وعمل معه فريق فني في إعداد الأحراف وتصفيفها، مؤلف من الشماس جرجس الحلبي والراهب ميخائيل بزّي وعبد الله الزاخر وأخيه نعمة. تأتي أهمية هذه المطبعة كونها أول ورشة طباعة داخل الامبراطورية العثمانية تصدر كتباً عربية.
بهذا الصدد، قال البطريرك دباس: «عملتُ مع مجموعة أشخاص حيث أن الله وفقنا إلى طبع الحرف العربي». ہہہ
ما هي الأمكنة التي أسست فيها مطابع بعد رومانيا وحلب؟ في عام 1726 أسست مطبعة ثالثة في اسطنبول، أُتبعت بثلاث ورش للطباعة في جبل لبنان: الشوير سنة 1734، جاسي مولدوفا سنة 1745، وفي بيروت عام 1751.
تعتبر ظاهرة تأسيس ست مطابع عربية خلال نصف قرن على أيدي مطبعيين وحفارين ذهبوا لجبل لبنان وبيروت من حلب، نقطة تحول وتطور، أقدم عليها المجتمع العثماني في القرن الثامن عشر لبلوغ مرحلة جديدة من الإصلاح والنهضة، لعب فيها الكتاب العربي المطبوع دوراً حيوياً بارزاً. تجدر الإشارة إلى أنه في تلك الحقبة لم يكن نقل الآراء الجديدة والمعارف العصرية وتداولها والتعريف بها على نطاق واسع، ممكناً إلا عبر الكتاب المطبوع، كما أن أفكار الإصلاحيين التي ظهرت في تلك الفترة، جاءت تعبر عن رغبة شديدة في تغيير المجتمع والتوجه نحو استخدام أدوات ثقافية متطورة.
طبيعي جداً إذاً أن نعي أن فن الطباعة وجد في الشرق وتألق بفضل البطريرك الثالث دباس الدمشقي، وأن إنشاء المطبعة ساهم في وضع الكنيسة الانطاكية في ركب الحضارة والدفاع عنها بوساطة الكلمة. كان اختراع الطباعة بالعربية العامل الرئيس الذي نشط حركة التعريب على حساب النشاط التأليفي وكان البطريرك دباس من أغزر البطاركة الانطاكيين نتاجاً على صعيد الأدب الديني، والنقل عن اللغة اليونانية، وحركة الطباعة وقفت حاجزاً أمام التراث الديني القديم.
ثمة واقع فرض نفسه: إذ أنتج تأسيس الدولة العربية واقعاً جديداً في الكراسي الشرقية ولاسيما في بطريركية انطاكية، وكان طبيعياً أن يتقلص استعمال اللغتين اليونانية والسريانية في الحياة العامة لمصلحة اللغلة العربية، وأصبحت هذه اللغة الرسمية مع تعريب الدواوين، كما ازدهرت في العصر العباسي حركة نقل الفلسفة والعلوم والأدب المسيحي إلى العربية وطبع عدد من الكتب القيمة في مطبعة حلب الانطاكية، عمد البطريرك دباس إلى ترجمتها من اليونانية وأشرف شخصياً على طباعتها، كان باكورتها: الكتاب المقدس بعنوان «الانجيل الشريف الطاهر» 238 صفحة، قول مسجل للبطريرك بهذه المناسبة: «شرعت بطبعه بعد أن حررته عن اللغة اليونانية ووضعته جملة جملة وأصلحت إعرابه لفظة فلفظة». اتبع بكتاب «المزامير». في عام 1707 صدر كتاب «الدرّ المنتخب من مقالات القديس يوحنا فم الذهب» (24 مقالة أدبية دينية».
في عام 1711 صدر كتاب «عظات البطريرك الأورشليمي أثناسيوس 1460 ـ 1468» 66عظة. في عام 1718 صدر «صخرة الشك» بطبعته الأولى في مدينة «لايبزغ» وبعد نقله الى العربية من قبل البطريرك نشر في عام 1721 في مدينة لندن، يؤرخ الكتاب لتاريخ الانشقاق بين الكنيستين الشرقية والغربية، ويقال انه أثار في حينه عاصفة هوجاء ضد البطريرك..
إذا ما عدنا إلى نهاية القرن السابع عشر، نكتشف ان البطريرك وضع تاريخ البطاركة الانطاكيين من عهد بطرس الرسول الى أيامه، واهداه باليونانية الى أمير رومانيا «برانكوفياني» بينما فقدت النسخةالعربية منه. ثمة مجموعة كبيرة من الكتب النسكية والقانونية والدفاعية، ومن ترجماته عن اليونانية كتاب في صناعة الفصاحة 1718 (في فن الخطابة).
ثم «منهاج الصلاح لبغية النجاح» عام 1723. اسم البطريرك مرتبط بتعريب وترجمة النصوص القانونية في الكنيسة الانطاكية، ،هو صاحب اهم مجموعة قانونية باللغة العربية ولتأريخ المجامع المسكونية الأول والثاني والثالث والرابع «في الأول حياة الامبراطور قسطنطين».
كان الدباس متعمقا في فقه اللغة العر بية،ويتمتع بمؤهلات فكرية وأدبية مشهود لها. في الفترة الممتدة بين 5 آب
1724 وتشرين الثاني 1725 نقلت المطبعة التي أسسها البطريرك في حلب مع كامل تجهيزاتها وآلاتها من المطرانية إلى لبنان بينما نقلت المخطوطات والكتب والرسائل ومعظم الأرشيف الى المقر البطريركي في دمشق.
كان للمطبعة بالأحرف العربية تأثير كبير على الحياة الثقافية والدينية والأدبية في بلاد الشام ولاسيما على الحلبيين. وانتشرت المدارس والمساجد والكنائس وحلقات التعليم ونافست كبريات المدن العربية، ونبغ تحت سمائها كتّاب وشعراء وأرباب الفن والصناعة.
وبتشجيع من البطريرك اثناسيوس ظهر الفن البيزنطي الأصيل بين أبناء كنيسته، وبرز تصوير الايقونات وبعض الأواني المقدسة من قبل الخوري نعمةالله بن الخوري يوسف المصور في 1686 (الوالد يوسف بن الحاج انطونيوس بن رعد المصور رسام بارز مبدع ظهر من عائلته اربعة رسامين للأيقونات بدءاً من الأب يوسف المصور ثم نعمة الله ثم حنانيا وابن الحفيد جرجس). والأيقونات التي ابدعها رسامو الايقونات في حلب نجدها اليوم في كاتدرائية الروم الأرثوذكس في حماة (أيقونة «ميلاد السيد المسيح» و«الدينونة» في دير البلمند وأيقونة تمثل «ملوك ورؤساء الكهنة» وأيضا أيقونة «العذراء الهادية».. الخ.
نشط فنانون آخرون «موسى ابن اسطفان» في الرسم على الخزف الصيني و«جبرائيل بن ميخائيل لباد الحلبي» في فن النسخ وآخرون في فن الايقونات: «حنا القدسي»، «يواكيم» بن زلعوم» كما نشطت حركة التعريب من اللغة اليونانية،ولاسيماتعريب المخطوطات وممن اهتموا بهذا الجنس وربما الفن الشماس عبد الله بن فضل الانطاكي 1635. وقد أقام معهد العالم العربي في باريس عام 2003 نشاطا ومعرضا للنهضة الفنية والثقافية، يتحدث عن تركة مدرسة حلب الفنية الثقافية في عهد البطريرك اثناسيوس الثالث دباس.
لا بد من الاشارة الى ان الحلبيين توارثوا حب الثقافة والابداع والذوق وراحوا يبارون أئمة العلم واقطاب الفن في أقطار وأمصار العالم. في القرن الثالث عشر زادت مؤلفات الحلبين بمفردهم على ما ألّف وصنّف في سورية ومصر والعراق، ويعود الفضل الرئيس لهذا الانتاج إنشاء أول مطبعة حرفا ولغة في الشرق إبان الحكم العثماني، يقال: «ان ازدهار هذه المدينة واتساعها وجمالها وموقعها وقوة اقتصادها آنذاك جعلها اشبه ما يمكن بمدينة ليون الفرنسية العريقة» ولانستغرب اليوم انه تمت توأمتها مع المدينة الفرنسية الثانية.
أنتهز المناسبة لأردد بعضا من أقوال مفكرين وعوا ما تقدمت به: كتب جرجي زيدان: السوريون أسبق المشارقة الى الطبع بالأحرف العربية وأسبق المدن الى هذا الفضل «حلب».
وكتب المؤرخ المعروف عيسى اسكندر المعلوف: «ان للحلبيين اليد الطولى في صناعة الطباعة بفضل بطريركهم أثناسيوس الثالث دباس الذي انتقل إلى رومانيا واشتغل في مطبعتها وهو صاحب الفكرة والفضل في تأسيس أول مطبعة عربية لغة وحرفا في المشرق». إن ما تقدمت به غيض من فيض مما يحكى عن أفضال البطريرك أثناسيوس الثالث دباس وعن جهوده المبذولة الآيلة الى نشر الثقافة والمعرفة في حلب وفي غيرها ناهيك عن عملية توزيع الكتب المطبوعة بالعربية مجانا في مقر إقامته وفي المشرق ومقرّات الكنيسة الانطاكية حيث وجدت.
أردت بهذه المناسبة وبمناسبة احتفالات حلب ان أتعرف على واقع مكتبة حلب، كما هو دون تشويه مبددة بعض الأوهام التي حامت حول تأسيس أول مطبعة عربية في المشرق.
ونحن بانتظار الكتب التي أعدها انطوان دباس والاستاذ نخلة رشو، والتي استغرقت سنوات عدة من العمل الجدّي