اندماج السوريين في المجتمع السوري

مقالات
Typography
  • Smaller Small Medium Big Bigger
  • Default Helvetica Segoe Georgia Times

لم تكن رومانيا بالنسبة للسوريين في يوم من الايام سوى الأم الثانية التي احتضنتهم ورعتهم وقدمت لهم الغذاء الفكري والروحي في اهم مرحلة من مراحل نموهم العقلي والعاطفي ، فالكثيرون تبدأ مرحلة تاريخهم الواعية وذكرياتهم من اليوم الذي جاوؤا فيه الى رومانيا في فترة ماقبل الثورة لمتابعة تحصيلهم العلمي والحصول على شهادات دراسية عالية ،

 ليست الشهادة هي الشيء الوحيد الذي حصلوا عليه ، ان شخصيتهم اخذت تتبلور وتأخذ ابعادها في هذه الفترة ، فهنا تكونت رؤيتهم الفكرية والنفسية وبانت توجهاتهم السياسية والاجتماعية ، وعلى الاراضي الرومانية توسع مفهومهم عن الأمة العربية من خلال اللقاء مع مواطنين من دول عربية اخرى ، وتكونت لديهم صداقات فيما وراء حدود اقطارهم ، وتعرفوا على العادات العربية لاخوانهم العرب على ارض دولة صديقة ، وأكلوا وشربوا وسافروا معا ، وهنا نسي العرب الخلافات السياسية بين انظمتهم وحكامهم وتلاحموا على السراء والضراء وحصلوا على  المعارف والعلوم  بجانب اصدقائهم من ابناء الشعب الروماني الذي استضافهم واعطاهم مكانا بالقرب من زملائهم التلاميذ الرومان ، فمنهم من كان ينجح كما ينجح الطالب الروماني ومنهم من كان يرسب مثلما يرسب الطالب الروماني ، كانوا يذهبون معا الى الكانتينا لتناول الطعام ذاته التي تشكل البطاطا والفاصولياء وقطعة اللحمة المسلوقة وانواع من الخضار المطبوخة معظم وجبات الأسبوع ، كانت رحلاتهم الجامعية الى مناطق سياحية وثقافية في رومانيا جزءا من برنامجهم التعليمي  مثلها مثل الحفلات الفنية التي كانت تقام بمناسبات عديدة الوطنية منها والمدرسية والرسمية ، بالاضافة الى حفلات اعياد الميلاد والنجاح في العام الدراسي والزواج وغير ذلك . يمكن القول ان لكل طالب كانت له ذكرياته الجميلة التي زادت من ربطه ومحبته الى هذا البلد الذي قدم الكثير من الخدمات المرافقة لاقامة الطالب الهادفة الى العناية براحته وتأمين الظروف المناسبة للتحصيل والتدريب العلمي سواء في المستشفيات او الورش العمرانية التي كانت نامية بشكل اكبر مما هي عليه الان ، وقد شاهد الطلاب وقتها رومانيا عندما كانت ورشة عمل تشبه خلية النحل ، ففي الصباح الباكر كانت وسائل المواصلات تزدحم بالعمال والعاملات اللذين كانوا يتراكضون للوصول الى اعمالهم غير ابهين بالبرودة القارسة والثلوج التي لو هطل جزء منها في سورية لعطلت المدارس والوظائف الحكومية ، ولا بالحرارة التي لم تكن تشكل بالنسبة لنا كسوريين سوى دعابة امام حر الصيف الذي يمر على بلادنا، كان البحر ملجأ لجميع افراد المجتمع كما كان الجبل ايضا ، لقد كانت السياحة الوطنية نشطة جدا في تلك الفترة ، فنادرا ما كان يوجد عامل او فلاح او موظف او طالب ممن لم يمكنه الترويح عن نفسه بقضاء عطلة سنوية تعوض له عن الجهد والتعب الذي بذله خلال السنة وتعطيه ذخيرة من الهمة والنشاط ليجابه بها أيام العمل القادمة. ولم تكن معاناة الشعب الروماني في تلك الفترة بمعزل عن معاناة السوريين التي كانت تمنع الرومان من اقامة علاقات مع الاجانب، ومع وجود هذه القوانين القاسية غير المعلنة الا انه غالبا ماكانت هذه القوانين لاتحترم لبعدها عن الطبيعة الانسانية للبشر. لقد شاهد الطلاب الذين درسوا في رومانيا اخوانهم من ابناء الشعب الروماني عندما كانوا يبنون المنشأت الأقتصادية والسياحية والثقافية، وكان الدرس الاكبر الذي استفاد منه السوريين من زملائهم الرومان وبقي يرافقهم طوال حياتهم يتلخص في ان حب الوطن لا علاقة له بحب او كره النظام الحاكم ، فالوطن باق والحاكم المستبد زائل ولو بعد حين . وهذا ماحصل بالفعل فقد جاءت الثورة الرومانية التي شارك فيها كل افراد المجتمع ، ولم يكن الطالب السوري وقتها يرى مايحدث بعين المشاهد وانما بعين المحلل الواعي لما يجري امام عينيه ، وكانت الثورة درسا عمليا اخر قلما تتاح الفرصة سواء له او لغيره لان يعيش هذه التجربة الصعبة التي كان يقرأ عن مثيلاتها في الكتب ووسائل الاعلام . وتغيرت الامور جذريا امام اعين الطالب ، ولم يعد يرى العرب من زملائه في الدراسة فقط وانما بدأ يرى من ابناء وطنه من جاء لغير العلم ، فمنهم من جاء لممارسة الأعمال التجارية واخرون للسياحة والترفيه كما بدأت شريحة الطلاب تتحول الى شريحة اجتماعية اخرى فالكثير ممن كان في تلك الفترة سواء انهى دراسته لتوه ام انه في السنوات الاخيرة من تعليمه ، فبدأ بانشاء شركة تجارية تخوله ممارسة عمله ضمن القوانين المطبقة على الجميع ، واشترى وباع واستثمر واقتنى وتملك بيتا وأسس اسرة رمزا لاستقراره وانجب اطفالا سواء بزواجه من مواطنة رومانية او بزواجه بمواطنة من بلده ، وتربى هؤلاء الاطفال في مدارس رومانية لايميزهم عن زملائهم التلاميذ حتى اللغة التي يتقنونها جيدا بخلاف ابائهم الذين اتوا في اعمار متقدمة ولازالت اللهجة التي يتكلمون بها تكشف عن كونهم اجانب ، وجاء الى رومانيا الكثير من التجار وأرباب العمل والمستثمرين كما غادرها الكثيرون لاسباب مختلفة ، وقد سمحت القوانين بعد الثورة مباشرة والتي كانت تسمى مرحلة الانتقال او التحول بدخول الأجانب الى رومانيا ، وهنا تغيرت الشريحة السورية وتطعمت بالكثير من التجار والحرفيين السوريين ، ولان هؤلاء لم يأتوا للدراسة فقد كانوا مكتملي الشخصية ، محافظين على العادات والتقاليد التي تربوا عليها في اسرتهم ووطنهم ، وظهر التساؤل عن خدمات كانوا ينعمون بها في بلدهم ولا يرونها  في رومانيا وبدأ الطلب يزداد على مكونات الطعام السوري والمدارس السورية لابناءهم وبدأ قانون العرض والطلب يقوم بوظيفته في الاقتصاد الحر ، فظهرت المطاعم العربية وتنوعت ماتقدمه من طعام تبعاً لمالكها ، فهناك المطاعم اللبنانية والسورية والعراقية وهناك المدارس العراقية والسورية واللبنانية والأردنية وغيرها ، وهناك اللحامون الذين يقدمون اللحوم المذبوحة على الطريقة الاسلامية وبائعي الحلويات العربية والمنتجات الغذائية التي اصبحت في متناول اليد ، بعد ان كانت ترسل الى رومانيا عن طريق الاشخاص القادمين او شركات النقل الخاصة او البريد السريع والتي كانت تقلل من شعور المواطن السوري خاصة والعربي عامة بالغربة وتعوض له القليل من حنينه الى الوطن. وساعد على ذلك ايضا انتشار القنوات الفضائية العربية في البيوت وامكنة العمل لحقها التوسع باستخدام الشبكة الدولية للمعلومات، ومن علائم اندماج السوريين في المجتمع الروماني عدا عن الزواج المشترك والأولاد المختلطين  والاحتفال بالاعياد الدينية عدم وجود تجمعات سكنية خاصة بهم مثلما هو الحال في امريكا والكثير من البلدان الاوربية الاخرى ، فأغلبهم يعيش بين جيران رومانيين يبادلهم التحية صباحا ومساء ويخرج معهم الى النزهات والحدائق والمطاعم . لقد تأثر المواطن السوري بالرومان وأثر فيهم حيث بدأ الروماني يسأل عن انواع كثيرة من الاطعمة والمكونات التي تدخل فيها ومن اين يمكنه الحصول عليها، كما بدأ يتابع مايعرض عليه في التلفزيون وفي الملاهي الليلية من اغاني ورقص شرقي اصيل ، والنسبة الغالبة من الشعب الروماني لم تتأثر بالدعاية المضللة ضد العرب والذي تأثر بذلك نسبة قليلة جدا هم ضحايا هذه الحملة العالمية التي تصور العرب على غير حقيقتهم لدوافع واسباب لاتخفى على احد اهمها الدافع الاقتصادي والثقافي ، وفي السنة الاخيرة عندما اختطف صحفيين رومان في العراق بدأت تظهر اصوات رومانية تدافع عن السوريين اكثر من السوريين انفسهم ، ولاشك ان قلة ايضا من الذين كانوا يشككون في النوايا السليمة للسوريين المقيمين في رومانيا ، وقد اظهر العرب والسوريين في هذه المحنة التي مرت بسلام بعودة الصحفيين الى بلدهم واهلهم الكثير من التعاطف مع الرومان المختطفين وزويهم وتضافرت جهود الجالية السورية والعربية لاول مرة امام تلك المحنة وشكلت لوبي ضاغط على الخاطفين ساهم بالدرجة الاولى باطلاق سراح الصحفيين .

        رومانيا عندما يغادرها من سكنها يحن اليها والى شوارعها وابنيتها وحاراتها وشواطئها وجبالها وناسها ، وهذا ما يعبر عنه ويقوله اكثر من خمس وثلاثون الف سوري انهوا دراستهم فيها وغادروا الى سورية ليساهموا في بناء بلدهم وتطبيق ماتعلموه هناك ، وقد وصل الكثير منهم الى مواقع في قمة الهرم الاداري والوظيفي ، فمنهم المدراء العامون ورجال العلم في الجامعات ورجال السياسة في المجلس النيابي ومجلس الوزراء الذي يضم الان من اعضائه وزيرين من خريجي رومانيا ، بالاضافة الى وزراء سابقون ، والملفت للنظر ان الوفود السورية التي تأتي الى رومانيا اغلبها لايحتاج الى مترجمين ، لان في الوفد لابد ان تجد على الاقل عضوا من اعضائه ممن يتقنون اللغة الرومانية . والتواجد السوري في رومانيا ليس وليد الفترة الاخيرة ، ففي العصر الروماني عندما كانت خاضعة كل من سورية ورومانيا الى الامبرطورية الرومانية التي حكمها اكثر من خمسة اباطرة من اصل سوري ، كان هناك المهندس السوري الاصل الذي قام ببناء جسر دوبروجه المسمى باسمه ابولودور ، وهذا الاسم يعرفه الرومان ويسمون به كثير من اعمالهم وشركاتهم اكثر من السوريين انفسهم .