ضحية أم مجرمة

قصص
Typography
  • Smaller Small Medium Big Bigger
  • Default Helvetica Segoe Georgia Times

سؤال ظل يقض مضجع "سارة" ،ويطرق كالسندان على أفكارها  لفترة طويلة من الزمن، كانت سارة خلالها كمركب صغير في محيط عاصف تتقاذفها أمواجه في جميع الاتجاهات، وكانت تبحث عن شمس تدلها على الشرق، أو قمر يدلها على الغرب، أو نجمة تضيء لها عتمة الإجابات ،وأخيرا قررت أن تجد أي شاطئ لترسو عليه مراكب حيرتها، فتصالحت مع نفسها،

 بعد أن قررت أنها كلاهما، أيقنت سارة أنها فتاة ثنائية جامعة للألقاب عربية رومانية، ضحية مجرمة، مسلمة مسيحية, ملتزمة مارقة, جامعة للأضداد.

في إحدى الأمسيات اكتشفت "سارة" أنها مسلمة، أخبرها والدها بذلك، بعد أن رآها تقبل مودعة صديقها "ميهاي"  على مدخل العمارة، في مساء ذلك اليوم بين لها عبر محاضرة طويلة عن العادات والتقاليد والدين من هي  ! وماذا يجب أن تكون ! .

واخبرها  أنها يجب أن تصلي وتزكي وتصوم، وان لا تأكل لحم الخنزير، وان تقرأ القران وان لا تتكلم مع الشباب، ولا مانع لديه من أن تضع الحجاب! وحدثها مطولا عن عائشة زوجة الرسول محمد وعن ضرورة الالتزام بدين آبائها وأجدادها, والحفاظ على عاداتهم وتقاليدهم، ولكن الأهم من كل ذلك أن لا تغضب الله ورسله وملائكته وان لا تعود إلى تقبيل ميهاي!

 

سارة تحب أن تصلي لله، واعتادت أن تعطي الفقراء،  وتصوم دائما، خاصة أنها تعتقد أن الصيام هو ريجيم رائع لذلك قالت لوالدها يومها: أنا فعلا  مسلمة ملتزمة، ولكن لا استطيع أن امنع نفسي من ممازحة زملائي الشباب،  وقبول مغازلتهم لي وإطراءاتهم،  ولا استطيع أن ارتدي الحجاب كما كانت تفعل السيدة مريم العذراء .وأضافت بعفوية أنا ملتزمة بعبادة الله  اذهب مع والدتي إلى الكنيسة كل  يوم احد، وأشعل الشموع،  واكل الخبز،  واصلي هناك.

وأضافت بفخر أنا لا أحب الخنزير لا شكلا ولا لحما، ولكني أحب كلبي الصغير تسو تسو ولا اعتبره نجسا ،أنا أحب الموسيقى أيضا, وأحب الاستماع إلى القران ،والتراتيل الإنجيلية ،والسمفونيات وأغاني فرقة السبايس، وأحب الرقص الشرقي ورقص السالسا . قرأت كتب التاريخ  وعلمت أن النساء كان لهم دور كبير فيه.وان كانت لا تعجبني الكبة النية ، فليس معنى هذا أني أتنكر لشرقيتي، وكوني مغرمة بالبيتزا والهامبورغر ،لا يعني أن طباعي غربية واني انفصلت عن ديني وعاداتي وتقاليدي!

في يوم من الأيام أضحت "لاورا" تلك الشقراء الرومانية ذات العيون الربيعية  الآتية من الشمال  زوجة للعربي الأسمر حسن القادم من الجنوب، هي اختارت أن تكون متميزة، وطموحها قادها إلى غلطة عمرها كما تقول، أرادت أن تقفز خارج سياج المألوف، وتتمرد على مجتمعها الشيوعي القاسي، أرادت تدخن المارلبورو وتستمع إلى موسيقى الجاز والديسكو،  وتلبس الجينز وتتقلد الأساور، فجربت أن تنال حريتها  عن طريق الزواج من أجنبي، لتنتقم  من قسوة الحياة معها .

كان ل لاورا صديق روماني يحبها، وعن طريقه تعرفت إلى "حسن"  الذي يمتلك لسانا كالشهد حلاوته، وأضحت  "لاورا" حلما للجنوبي الأسمر، الذي تمكن من نسج شباكه حولها فوقعت فريسة له بسهولة، تركت الجميع ولحقت بحلمها، وحينما بلغت ابنتهما 4 أشهر من العمر في بطنها، تزوجت "لاورا " من "حسن"  وكانت  "سارة" هدية عرسهما بعد 5 أشهر من إقامته ، "لاورا"  وجدت في "حسن" الشخص الذي تتمناه،  وتعلقت به ولكنها ومع كل ذلك رفضت أن تتحول لدينه  لأنها مقتنعة أن الإيمان هو في القلب أولا والممارسات الجسدية الإيمانية تأتي  ثانيا ولان "حسن" لم يحدثها ولو مرة واحدة عن الإسلام  .

بعد سنين وحين رأى حسن ابنته  تعانق ابن الجيران أمام باب البناية ثارت ثائرته، وتذكر بعض الأحكام التي احضرها من بلده, وبدأ يحاكم ابنته بمفاهيم نائمة منذ  عقود استيقظت من غفوتها وبدأت تنهش غيرته وأخرجته عن طوره، فانفرد بزوجته "لاورا" وبدا يصبغ على ابنته  ألقابا جائرة ( غير خلوقة ، فلتانة ، كافرة) وغيرها من المفاهيم والألقاب  التي لازالت عالقة في ذاكرته. ونسي أو تناسى  انه هو من عاشر والدتها لمدة أشهر قبل الزواج،  ونسي أرائه في أن الزواج هو ورقة رسمية تحفظ للزوجة حقوقها المدنية فقط وان الصداقة هي إشهار وزواج.

ولكن كيف لهذا العربي أن يفهم المجتمع الروماني  وهو لا يتكلم الرومانية بشكل جيد حتى اليوم، وكيف يمكن أن تقنعه زوجته  وهو  يدعي العلم والمعرفة بكل شيئ، ويتفاخر بأنه يحمل شهادة طبيب رغم أنه  لم يتقن سوى العمل في التجارة  .

والطامة الكبرى أنه حين يتعلق الأمر بأحمد شقيق سارة، فان الوضع يختلف، والمحاكمات لا تتطابق، فحسن  يسمح لابنه أن يستقبل صديقاته في غرفته، ويعلم ما يحدث هناك، ولا يعترض بل انه يمازح صديقات ابنه،  ويفتخر بتوريثه الفحوله  أمامهن ،"أحمد" يحق له أن يخرج ويصاحب من يشاء، ويتأخر عن المنزل قدر ما يشاء،  أما إذا تأخرت" سارة"  عن المنزل فستخضع لمحاكم التفتيش وللعقوبات الاقتصادية وللحصار الجائر، فهناك في الجنوب مصطلحات عربية نسائية لا يجوز إطلاقها على الرجال وهي ( الزنا – الخيانة – العهر – الشرف – الخ)  !؟

والأغرب من هذا كله أن "حسن"  لا يصلي ولا يصوم ولايزكي ! ومع هذا فهو يقرر  أن زوجته  لن تدخل الجنة معه  رغم أنها تصلي وتذهب للكنيسة وتعطي الفقراء وتصوم! وذلك لان الجنة ستكون حكرا على المسلمين فقط ، لان الإسلام كما يقول هو آخر نسخة من الأديان، والنسخ السابقة ملغاة، وعلى الجميع أن يكونوا مسلمين.

والدة سارة تقول أن الهدف من الدين هو الوصول إلى الله ،عبر المحبة والتسامح،  ولا فرق بين الأديان فكلها طرق للوصول إليه.

"سارة" أدركت بفطرتها أن هناك صراع للمفاهيم بين الجنوب العربي والشمال الروماني  لم تطفئ السنين جذوته، ويمكن لأي ريح أن تذكيه نارا، فوالدها رغم كل تلك السنين  لم يتمكن من التحرر من مفاهيم رضعها، وعادات وتقاليد بالية حفرت في مورثاته .

وسارة بفطرتها تجنبت الدخول في علاقات سرية، وحافظت على عذريتها، فقط  لأنها لم تجد حتى الآن من يستحق أن يكون الرجل الأول في حياتها، ورغم أن صديقتها حسناء والداها عربيان  أنهت في الأمس فقط  علاقتها الغرامية مع رابع شاب في المدرسة،فان هذا لم يولد لديها الحافز على اللحاق بركبها ومنافستها .

"حسن"  يدرك أن المعركة التي قرر دخولها هي معركة خاسرة، ويعلم انه يدفع ثمن غربته وعدم تأقلمه، وإهماله زرع قيم أجداده في أولاده، ولكن مشكلته كسكين ذو حدين تقف في بلعومه لا يمكنه أن يبتلعها، ولا يمكنه أن يخرجها، ففي كلا الحالتين سيكب جرحا عميقا.