ليل بلا نجوم ,الأشجار العارية على امتداد الطريق ترتجف خوفا من صرخات الريح التشرينية الباردة، القمر خائف مختبئ خلف غيوم داكنة ،الظلام هو السيد . أصوات آليات ثقيلة تقطع سكون الليل، تتوقف عجلاتها عن الدوران Hمام البناء ، ولا يسمع سوى هدير المحركات.
أزواج من الأحذية تغادر الآليات الرابضة على طول الشارع ، بعض الأزواج يصعد سلالم العمارة بسرعة، أيد و أرجل تهز الباب , و نعيق يشبه صوت البشر افتحوا الباب، ثوان و يزداد عنف الطرقات، ويتعالى صراخ أحدهم افتحوا الباب يا أولاد ال...........
ما يكاد " حسن" يصل إلى الباب ليفتحه حتى يدرك أنه ليس هناك حاجة لذلك ! فقد تم خلع الباب. .الأحذية تملا غرف المنزل، الحمام < المطبخ، دورة المياه، العيون تبحث في كل شيء وعن كل شيء ، الأحذية تنشر الفوضى في كل مكان تطؤه، الألبسة تهرب من الخزائن، البراد يتقيأ ما به، والمكتبة تستريح متراكمة على أرض الغرفة.
زوج لامع من الأحذية يسأله : أنت حسن؟
الإجابة : نعم أنا الدكتور حسن .
الزوج اللامع : المعلم يرغب في التحدث معك على فنجان قهوة ..
صمت مستسلم، فقد كان صوت الحديد أعلى من صوت الكلمات الخائفة المكتومة التي لم تصدر عن الحلق المخنوق.
خلال دقائق يتحول "حسن" إلى كرة تتقاذفها الأيدي والأرجل، موجهة إياها لإحدى الآليات الرابضة،وتحرز به هدفا في جدران مرمى الآلية .يستريح جسده على الأرضية، يستيقظ فكره من الذهول، و يحدث نفسه متمتما مستكملا اجابة السؤال . نعم أنا الدكتور "حسن" دكتوراه في علم الاقتصاد بمرتبة الشرف من جامعات فرنسا، مدرس في الجامعة و..... تهبط إحدى الكفوف على رقبته لتوقظه من حلم ممنوع.يريد لسانه أن يتفسر فيتحرك لينطق : .
لماذا ......!
ضربة اخرى ترتاح بكل ثقلها على وجهه, تجعل التساؤلات تختبئ خوفا وخشية من الثالثة.
صوت الآليات يمزق سكون الليل، قاتلاً الهدوء والسكينة في شوارع المدينة ، وأخيراً يتوقف هدير المحركات، ويطلب منه أن يترجل ، يحاول "حسن" أن يرفع العصابة الموضوعة على عينه ليتلمس طريق الهبوط من الآلية سالما.
تردعه قبضة انتقامية تدحرجه على الأرض ,فلا يعود بحاجة إلى هبوط درجات الآلية بأرجله . رأسه و أعضاء جسده كافةً يشاركون في عملية الهبوط على السلالم ،
و بنفس الطريقة الرياضية ,يساق من الآلية إلى داخل أحد الأبنية، مطبقا نظرية نيوتن في السقوط الحر بشكل عملي ، فالهبوط الحر هو الطريق الحر الوحيد الموفر لأمثاله.
يساق " حسن " إلى مكان غريب , برودة المكان ووحشته تسري في أوصاله.فتمنحه هذه الرعشة المقيتة ,رعشة الخوف من المجهول.
يُجلَسْ على كرسي، يسمع همهمات، ويشتم رائحة الرطوبة، ولا يرى سوى المستقبل الأسود الذي ينتظره، يعم الصمت للحظات.
صوت زاعق يخاطبه أنت حسن.....!
نعم
ولك حقير... قل نعم سيدي.
يتدارك:. نعم سيدي أنا الدكتور حسن ..... دكتوراه في الاقتصاد والسياسة.
هه السياسة لم تخلق لحيوانات أمثالكم يا...... سيل من الشتائم بعضها يسمعه لأول مرة ’ تجعله يتأكد أن الذي أمامه حاصل على شهادة الدكتوراه في قلة الأدب بمرتبة الشرف.
ما يتذكره هو تلك الكلمات المؤدبة “حسن" سأعيدك إلى مجاري أمك التناسلية ( الثقافة والأدب تشع من فاه هذا البغل البليغ).
يتساءل ماذا فعلت لاستحق هذا؟
المتحدث : ها لا تعرف ! ستعرف بعد قليل.ومزيد من الكلمات النابية .... هل أنت متزوج ؟
حسن : نعم سيدي أنا متزوج.
هل لديك أولاد يتامى ؟
حسن :( دون تفكير بكلمة يتامى) نعم سيدي.
ما هو انتماؤك السياسي ولاك حقير؟
حسن : أنا أنتمي إلى الحزب الحاكم.
ضربه على خده الأيمن تدير له الأيسر لتلصقه بالحائط الذي يقبله بقسوة، يسقط جسده كخرقه بالية على الأرض.صبره بدأ بالنفاذ، عدوى الأدب تنتقل إليه، يلعن ويسب متسائلا بألم: لماذا أُضرَب ؟ لم أفعل شيئاً.
فجأة تنهض أرجله إلى أعلى، ويتدلى رأسه أسفلا، فيدرك أن الأرجل هنا أعلى شانا من الرأس، وعلى جسده المتأرجح تنهال لسعات ضربات موجعة تنسيه نفسه ، فيهرب العقل من الألم إلى غيبوبة توقظه منها برودة الغرفة الرطبة التي نقل إليها بعد الغيبوبة.
شيئا فشيا تبدأ عيناه باعتياد جدران الغرفة المزّينة ببقع الدم , رأسه يتجه إلى الأعلى ليتفحص فتحة التهوية، والتي سيكتشف لاحقا أنها المعبر الحر الوحيد الذي سيصله بالعالم الخارجي ,أما الارضية فهو بالكاد يلامسها فالأجساد البشرية المرمية عليها تمنع من ذلك ..
لحظات وتفسح له الأجساد مساحة لتبدأ معركته مع الألم والصمت ..جميع تلك الاجساد تتنفس ولكن أصحابها أموات , عيون تتفحصه متسائلة وألسنة لا تنطق خوفا ..يقترب منه الشيخ أحمد ويهمس له السلام عليكم اصبر يا أخي .
بعد أن هدأت النفس وانتهت صدمة اللقاء الأول يتوقف "حسن" لبرهة مع نفسه ويراجع ذكرياته ، ما هي الجريمة التي اقترفها ؟
يعود بالذاكرة إلى أيام خلت حين تناهى إلى أسماعه أصوات طلقات نارية في عرس جيرانه، حينها بادر فورا إلى الاتصال بالجهات المسؤولة. يتذكر خوف زوجته وابنته في تلك الليلة،
والآن ماذا تفعل زوجته ؟ هل سيقومون بإحضارها واستجوابها على طريقتهم. يتسائل وماذا إذا حققوا مع زوجتي أيضاً ؟
طبعا لن يستخدموا العنف، ولكن ربما سيلاطفونها ، وربما سيداعبها زعيمهم، من المؤكد أنها سترفضه وستصرخ في وجهه وربما ستضربه ، ستكون خائفة وستبكي. يبكي حسن ألماً وقهراً، يبكي كطفل صغير،و يتهاوى.
من جديد يستيقظ على همسات زملائه الأجساد .معلنين موعد حفلة استقبال جديدة , لا يذكر اليوم ، ولا الساعة. ما يدركه أنه يساق من جديد إلى حفلة موسيقية جديدة. أجهزة التعذيب هي آلاتها ، وصرخات الألم آهاتها ومواويلها، وتلوي الأجساد المعذبة هي رقصاتها، أصوات رفاقه الآتية من بعيد تهزه من الأعماق، يتسائل :هل سيكون بعد قليل صاحب إحدى تلك الصرخات المرعبة؟ ولماذا كل هذا ؟
معصب الأعين يحتضنه مايعلم لاحقا أنه الكرسي الألماني الحديث،يحدث نفسه التكنولوجيا الحديثة وصلت إلى هنا قبل أن تصل إلى الجامعة.
من جديد يبدأ المحقق بالكلام حسن...... الأفضل لك أن تقول ما تعرفه فنحن لا نريد أن نؤذيك ، أنت مثقف وتدرك انك في النهاية ستتكلم.
حسن : سيدي اسألوني ما تريدون ، وسأجيبكم . وان كذبت افعلوا بي ماتشاؤون اع...د... م......و......ن.....ي تتناثر كلمات أعدموني مع ضربة يتلقاها جسده من جديد.
يتابع المحقق : قرأت ملفك جيدا. من هي الجهة التي تدعمك؟
هيا أنت إنسان متفهم. لا أريد أن أعاملك كمجرم. اعترف بكل شيء وستخرج حالاً.
حسن : ماذا...! ما هي التهمة ؟ ماذا فعلت ؟ عن ماذا تريدون أن أخبركم ؟
المحقق : أخبرني من دفعك إلى تقديم بلاغ كاذب لمقسم شرطة الحي حول إطلاق أعيرة نارية في حيكم.
حسن : سيدي لم يكن البلاغ كاذباً، إطلاق الأعيرة النارية استمر لساعات .
المحقق : كلب ...كاذب ... حقير ...هل تكذب زوجة المعلم!
العرس كان لأحدى قريباتها، ولم يطلق هناك أي عيار ناري.
ثم انك بنفسك قد وقعت في مقسم الشرطة أن بلاغك كاذب، ودفعت غرامة مالية لإزعاج السلطات، لماذا تذهب الى جهات أمنية عليا وتفتح الموضوع من جديد مع ولمصلحة من ؟ من حرضك? ما هي دوافعك؟
يروي حسن للمحقق كيف أنه في مساء ذاك اليوم، عاد إلى منزله، وكالعادة بعد مشاهدة نشرة الأخبار، والمسلسل الأسبوعي على القناة الرسمية كأي مواطن صالح ، ذهب إلى غرفة النوم .
وفي الواحدة ليلاً استيقظ مذعوراً على صوت أعيرة نارية، كما لو أن هناك جبهة قتال، نظر من النافذة فاكتشف أن جيرانه تصاعدت ذروة احتفالهم بزفاف ابنهم ، واستمرت الأعيرة النارية تؤرقه لأكثر من ساعة، فاتصل هاتفيا بمقسم الشرطة شاكيا. طلبوا من اسمه وعنوانه ووظيفته.
بعد ساعة طرق الباب رجلان يرتديا ملابس الشرطة وسألاه : هل أنت المدعو حسن ؟
نعم
أنت تقدمت ببلاغ حول إطلاق أعيرة نارية؟
نعم
لقد تحققنا من الآمر وسألنا الجوار لم يسمع أحدهم شيء؟
يجب أن تذهب معنا إلى القسم . فأنت تقدمت ببلاغ كاذب وأزعجت السلطات. طلبت منهم أن أغير ثيابي فوافقوا بأدب.
أعلمت زوجتي أن توقظ عميد الكلية وتخبره ما حدث إن لم اعد بعد ساعتين، وان تخبر قريبها المتنفذ ليساعدني في محنتي هذه. (تعمد حسن هنا أن يذكر اسم قريبه المتنفذ وان يتحدث عن انتمائه السياسي) .
في غرفة الاحتجاز هناك تعرفت على أحمد سائق أحد المهربين، وشابين تعاركا من أجل راقصة في إحدى الحانات،
وهناك سيدي أعترف أنني ارتكبت جريمة الكلمة ، لعنت البلد، ولعنت الساعة التي رجعت فيها إليه،
ولكن لم أسب القيادة ولم أفكر حتى في التطاول على سادتي فأنا عبد خنوع، أعرف الخطوط الحمراء ولا أتجاوزها.
سيدي حالتي النفسية آنذاك جعلتني أخطئ في حق البلد، أطلب السماح ’ والله لن أكرر ذلك , كانت مجرد كلمات.
صمت طويل...........
المحقق يومئ براسه مفكراً ويرفع عينيه متسائلا : واتهاماتك أن رجال الأمن عصابة فاسدة أمام زملائك في الجامعة.
سيدي والله العظيم لم أقل هذا ( يعلم انه كاذب يطلب من ربه الغفران لقسمه الكاذب) .
سيدي أنا مريض بالسكر، ويبدو أن مرضي بدأ يؤثر على قدراتي الذهنية، أتخيل أشياء لم تحدث كحادثة الأعيرة النارية أرجو أن تسامحوني.
صمت طويل مرة ثانية.
حسنا سنرى ما ستقوله القيادة في أمرك ....بعد التحقيق مع حسن بدأت تبدو الأمور أسهل, فقد انتهت مراسم الاستقبال، و جلسات الترويض، وحفلات الموسيقى، وتم نقله إلى غرفة أكبر.
كم كانت سعادته كبيرة، ينام الآن ممددا جسده بالكامل، ، لم تعد تمارس عليه التمارين التعذيبية المعتادة ، تخلص من تجارب بافلوف العبقرية في حيونة البشر.
.أيام عدة مرت على هذا الحال ,وفي إحدى تلك الأيام علم وعن طريق الصدفة من حارسه أن التاريخ هو السابع من ديسمبر. أي أنه أمضى في هذا الفردوس سبعةً وعشرين يوما،
في الخارج الجميع كان يسأل عنه، وعلم فيما بعد أن أحد الضباط برتبة لواء قد توسط للإفراج عنه، وذلك عن طريق رئيس العشيرة التي تنتمي إليها عائلته، بعد أن دفع والده مبلغا محترما من المال كان قد ادخره لعرس أخيه الأصغر.
. لقد اقتنع "حسن " أخيرا كم هي مفيدة قصة الانتماء إلى عشيرة كبيرة، وأصبح لسان حاله يقول : أدام الله علينا نعمة العشائرية والقبلية .
في احد تلك الأيام أتى اليه الحارس على غير موعده و أخرجه إلى الحمام، وأعطاه هدية قيمة "صابونة" وطلبوا منه أن يستحم ،
متعة مابعدها متعة حين تعانقت خلايا جسده بلهفة مع قطرات الماء الدافئ المنسابة من الدش ، عناق عشاق ألهبهم الشوق وعذبهم الحنين ، و رغم الألم في معصمه ، والسعال الذي لم يتخلص منه ، فقد دب النشاط في أوصاله،
بدأت الأمور تسير نحو الأفضل، حين نقلوه الى زنزانة مضيئة، وأعطوه ملابسَ جديدة، علم لاحقاً أن قريبه المتنفذ تمكن من تسريبها إليه هناك .
بعد أيام أدخلوه على ضابط أنيق متبسم يتحدث بلباقة، اعتذر منه لسوء حظه، وسوء الفهم، وسوء المعاملة، ولما سببوه له من معاناة، وأرجع السبب إلى بعض المغرضين، وكتاب التقارير، وأوضح أن الاستعمار والإمبريالية العالمية ، هم وراء معاملته اللاإنسانية، وحدثه عن الصراع مع العدو الصهيوني ناصحاً إياه بأن لا يحدث أحد عما جرى معه ، خوفا من الوشاة والحساد، ومنعا لتسرب هذه المعلومات الإستراتيجية إلى الأعداء فنخسر معركتنا معهم.
وختم خطبته العصماء بالعبارة الوحيدة التي فهمها حسن والدك وأخوتك ينتظرونك في الخارج
لا يتذكر حسن كيف حملته أقدامه بعيداً عن هذا الخطيب، ولا كيف تعرفت عيناه على إخوته ووالده الذين تعرفوا على ابنهم بصعوبة ،
كانوا يحملقون بذهول بهذا الكائن الجديد الذي يتبختر من الألم بمشيته ، وربما السبب كان خسارته ل20 كغ من وزنه ، وجهه الشاحب و هندامه الغريب ، مشيته المتعثرة، نظراته الزائغة،
أو وصوله إليهم وتجاوزه لهم وهروبه نحو الأمام بعيدا عن المبنى الوحشي الذي ابتلعه لمدة ثلاثين يوما .
لقد أراد الابتعاد قدر الإمكان عن هذا المكان، وهذا ما كان فخلال أيام أصبح " حسن " مهاجرا دون عودة.