ما أقسى الرجوع إليك أيتها الجدران! وكم أنت قميئة ومفيدة يا أيتها النافذة العالية الصغيرة المزينة بالقضبان!
أفكار تنهمر في مخيلته ودموع حزن لا تفارقه وهو ينظر إلى الضوء القادم من تلك العالية،
فدوام الحال من المحال. ولكن ألم يكن هذا بالحسبان؟
نعم هذه المرة كان الأمر متوقعا،
ليس كصدمة المرة الأولى.
دخوله منذ سنوات هذا المكان
كان صدمة.
هزة ليلة الدخلة
والتجربة الأولى.
حين ضمته جدران هذا القفص الإسمنتي
تعرف ليلتها على الأرق،
وسهر معه حتى مطلع الفجر.
أربع سنوات مسافة زمنية
تفصله عن تلك الذكريات.
أربع سنوات من الأحلام الوردية
التي عاشها واستيقظ من كابوسها
منذ أسابيع خلت.
بطاقة انتسابه إلى هذا المكان
ملأها حين زار "صبحي" ذات مساء
طالبا معونته المالية
لتسديد فاتورة مشفى ابنه الوحيد "أحمد".
ابنه الذي وهبه الله الذكاء
والجمال والحساسية ومرض مزمن
يتطلب غسيل كليتيه كل فترة.
"صبحي " تاجر مخاطر.
مصلحته فوق الجميع.
ذكي بالفطرة.
لم يصقل ذكاءه بالتعليم.
دمث الأخلاق. طيب القلب.
يساعد المحتاجين.
لا يرد طالبا.
قصده كما يقصده الجميع.
وساعده كما يساعد الجميع.
بعدها بدأ بالتردد والتودد لمنقذه ومخلصه.
وفي أحد الأيام
قبل عرضه العمل
في المؤسسة التي يديرها
ويمتلكها "صبحي".
خلال مسيرة عمله
كان يحترم القوانين
التي لا تتعارض مع المصلحة النهائية
لطبيعة العمل.
لا يدري كيف ومتى؟
دخل في دوامة العمل اللامسؤول .
ولكنه استيقظ ذات صباح ليجد نفسه
حائزا على كثير من المخالفات والتهم
التي مهدت له الطريق
لفض بكارته القانونية رسميا.
في ليلة الدخلة الأولى
تعرف على من سيكون له اليد في عودته.
وهناك في السجن
أدرك كم كان ساذجا
وملوثا وغارقا في الأوحال.
عصبونات عقله الباطن
كانت دائما تحذره وتحدثه عن الأخطار،
ولكن المكتسبات والحاجة
كانت ترخي سدولها على تلك الأفكار
وتنبذها وتبعدها ولا تظهرها.
مرت الأيام وازدادت الأوحال،
وابتعد عن شاطئ الأمان.
وذات يوم أتاه كشف الحساب،
وكان لابد من دفع فاتورة الديون.
ديونه القانونية كانت متعددة،
وكان أهمها
المساعدة على عدم
احترام القوانين الاقتصادية.
أشهر عدة قضاها
بانتظار كلمة حق
وخلالها توطدت علاقته بــ "ميهاي".
"ميهاي" بهلوان ولاعب سياسي ماهر.
صالح لكل الأزمنة والأمكنة.
عرفه بنفسه بأنه رجل قانون،
رغم بعده الكلي عن الصفتين.
"ميهاي" أصبح شريكه لاحقا.
كان نافذة من الأمل
أشرقت على ظلمة أيامه آنذاك.
كان المرشد والمخلص والدليل.
كان الدواء لعلته الجديدة،
وعن طريقه حصل على
كثير من الامتيازات،
فكثرت زيارات الأصدقاء والعائلة.
"ميهاي" كان الصدر الرحب
الذي يسمعه دائما
حين يفضفض عن نفسه المعذبة.
يشكو له همومه.
يسرد له مسيرة حياته،
ويتذكر معه خطوات انزلاقه.
كان يحدثه عن كل شيء.
وكان "ميهاي ".
يساعده في الحصول على امتيازات:
طعام – اتصالات هاتفية – زيارات.
وحتى أنه نصحه
كيف وماذا يجب أن يقول أثناء محاكمته؟.
وحتى عندما خرج
وعاد إلى حياته الطبيعية،
كان "ميهاي" مفتاحا لباب دخوله
إلى عالم المال والتجارة من جديد.
لا يدري كيف وصل
إلى ما وصل إليه اليوم؟.
ولكن ما يدركه تماما
أن المخاطرات كانت نزهات بالنسبة له،
وأنه بنى ستارا حديديا
أمام المحاكمات العقلانية السليمة
للعقل الباطن،
وأنه أبحر عميقا،
وحلق عاليا،
فلم يعد يرى سوى السماء.
ابتعد عن أصدقاء الأمس،
هجر زوجته،
واقتنى إحدى آيات الجمال.
زرع لابنه كلية جديدة
ومن ثم لفظه وأمه.
هرب من الماضي
وسحق كل المقربين،
ولبس عباءته الجديدة.
المشاكل القديمة
التي كانت تؤرقه وتحتاج أياما لحلها،
أضحى حلها مع أصدقائه الجدد
يحتاج إلى مكالمة هاتفية
على مائدة عشاء.
هو و"ميهاي" وشركاؤهما
كانوا فريق عمل يأكل الأخضر واليابس.
لا يقف في طريقهم أي شيء.
وضعوا المال هدفا،
وتمكنوا من صناعته بشكل أذهله.
مارس العهر الاقتصادي
بكل أبعاده وأشكاله وطرقه
ونهل من ملذاته.
وكان دائما
خارج إطار المساءلة والمحاسبة.
"المال يصنع المعجزات"
أصبح شعاره الجديد.
و"لكل شيء ثمنه"
أصبح واقعه المعاش.
ذات يوم وقبيل موعد
الانتخابات البلدية بأشهر،
بدأ أصدقاؤه الجدد بمحاولات لكبح اندفاعه.
لم يأبه. لم يصدق. لم يكترث.
ورغم أنهم خفضوا
نسبة مشاركتهم بصفقاته
إلا أن الأنا كانت كبيرة ومتضخمة لديه،
فلم يكترث
وتابع اندفاعه بقوة أكبر.
بدأت المشاكل صغيرة،
وبدأ ناقوس الخطر يقرع،
ولكن دون أذان صاغية.
أخبره أحدهم أن صلاحيته انتهت،
وأنه غدا شخصا فاسدا.
لم يصدق،
ورد نصيحته إلى الغيرة والحسد.
كبرت مشاكله
وتشعبت
ولم تعد تتوقف عند حدها المعتاد.
فقدت الاتصالات من على الموائد
سحرها المعتاد.
طلب مساعدة "ميهاي"
فحدثه بلغة غريبة لم يعهدها منه.
قال له:
"لا أحد يستطيع مساعدتك.
الموضوع أكبر من قدراتنا."
وأضاف: "لقد نصحوك."
قصوره الرملية ودون سابق إنذار
بدأت تتهاوى لدى أول هبة ريح،
وأول موجة قوية أخذت ما تبقى منها.
لم يعد يدري كيف تتسارع الأمور؟.
و كما كان صعوده سريعا
منافيا لقوانين الجاذبية،
كان هبوطه عنيفا
منافيا لكل قوانين الطبيعة.
هوى من الأعالي
فاصطدم بحقائق لم يكن يجهلها
بل كان يخفيها.
اليوم أحس بمكانته
واكتشف حقيقة المال
الذي ضحى من أجله بكل شيء
غال في حياة إنسان.
بالمال استطاع أن يجمع الأصدقاء
ولكن لم يستطع أن يشتري الصداقة،
استطاع أن يشتري الكتب
ولم يتمكن من أن يشتري الثقافة.
استطاع أن يشتري الدواء
ولم يتمكن أن يشتري الصحة،
استطاع أن يستحوذ الإعجاب
ولم يستطع أن يشتري الحب.