تاريخان مميزان في غربته:الأول هو تاريخ حصوله على تأشيرة الدخول إلى رومانيا، والآخر هو حين سيعود منها محملا في تابوت.
في طرق الهجرة إلى الشمال،والعودة إلى الجنوب،هناك الكثير من الأحلاموالانتماءات المدفونة.وعلى قارعة تلك الطرقات،
تغيرت حياته وحياة الكثير من أصدقائه،وربما حياة مئات الآلوف من الشباب المهاجر.
في الوطن كان السفر إلى الخارج
حلما له مذاق مميز،
ونكهة خاصة،
تطعم جلساته مع الأصدقاء
حين كانوا على مقاعد الدراسة.
الهجرة بالنسبة لهم
كانت طموحا، تحديا،
هروبا، أملا، وخروجا عن المألوف.
اليوم تفصله سنوات طويلة
عن هذا الحلم الذي تحقق له يوما،
وكانت السعادة والزهو والأمل
حينها تفرش له طريق الغربة
بالورود والرياحين.
حضر "منير " إلى رومانيا
قبل أكثر من خمسة وعشرين عاما
بهدف الدراسة التي أتمها بنجاح.
وعاد إلى مغتربه في رومانيا
بعد الثورة ضد الحكم الشيوعي.
عمل في مجالات عدة،
واستطاع أن يؤسس عملا تجاريا
افتخر ببنائه ونجاحه.
ومع كل صعوبة مادية،
أو نكسة صحية،
أو مشكلة اغترابية،
كان يفكر بالعودة إلى الوطن.
وفي كل مرة كان يقول لنفسه:
"قريبا سأعود
فقد مللت من الغربة، والوحدة،
فأنا غير متزوج واحلم ببيت
وعائلة وأطفال في الوطن.
ومضى قطار العمر
وعبر محطاته حقق أحلامه بالدراسة والشهادة الكبيرة والبحبوحة الاقتصادية،
ولكنه لا يزال ينظر بعين الحنين
إلى منبته وارض الأجداد.
يشتاق إلى التراب الذي منه أتى
وإليه سيعود.
هناك بنى منزله وأثثه.
وهناك وضع تحويشة عمره.
الغربة بالنسبة له هي المقصلة
التي تفصل الرأس عن الجسد والقلب.
القلب بقى معلقا هناك في الوطن،
والعقل هنا يتعذب من اجل القلب،
وتتقاذف هذا الجسد المقسوم أمواج عاتية
لا يمكن مقاومتها،
هي أمواج الحيرة.
صراع يومي ومعركة مستمرة
لازال العقل ينتصر في جولاتها
ويبقيه في غربته
التي تحولت بمرور الأيام إلى وطن ثان.
الأعياد تعتبر من المناسبات
غير السعيدة على الإطلاق ،
فمن خلالها يشعر "منير " بعزلته،
وتتجذر غربته وتنكشف مساوئها،
فيلمس جراحه القديمة دون أن يتألم.
في أمسيات تلك الأعياد
يجمع منير حقائب الذكريات
ويمضي راحلا بالفكر إلى الورق،
يهاجر عائدا في مخيلته إلى الوطن
ليمضي العيد مع أهله وأصدقائه هناك.
ولكن هيهات أن يشفي شبق الحنين
بضع كلمات وشريط ذكريات،
فالعلاقة بين الحنين والذكريات
هي علاقة حب بين فتاة عذراء،
ورجل شيخ في خريف العمر.
الأولى لا ترويها كل ينابيع الحب في العالم،
والثاني متردد مرتعش
في كل خطوة من خطواته.
صباح العيد يجتر "منير" ذكريات الطفولة،
فيتذكر العائلة حين تجتمع، وزيارة الأقارب والألعاب والحلويات والعيديات،
وبعد أن يتحدث مع أهله صباح العيد مهنئا،
تؤلمه لسعات الفراق
فيمتطي صهوة أصوات النحيب
وينطلق في سهول البكاء،
بكاء من الأعماق هو اصدق أنواع البكاء.
للعيد ملامحه في حياة العرب هنا
وخاصة لدى العائلات العربية المغتربة،
أما بالنسبة له فالعيد
مجرد مناسبة لرفع أعلامه المنكسة
على مباني وحدته وغربته.
كل الأمطار الهاطلة في الغربة
لا تستطيع أن تغسل غبار الحزن
المتراكم نتيجة الفراق،
وكل الثلوج لا تستطيع
أن تحول لون سواده إلى البياض الناصع،
فالغربة ليست غربة الجسد فقط
بل هي غربة الروح والقلب
والحيرة والضياع،
هنا من الصعب العودة إلى مرحلة الطفولة
فالنطق يتعلمه الإنسان
في أولى سنين عمره
ولا يمكنه أن يبقى طفلا طول العمر.
قبل شهرين أصيب "منير" بوعكة صحية
ألزمته المشفى،
فوجد نفسه من جديد
وحيدا لا أبا ولا أما و لا أخوة يطلون عليه.
كانت الدمعة والآهة رفيقه الدائمة.
الأصدقاء من الجالية العربية
على قلتهم لم ينقطعوا عن زيارته،
وكان كلما ربت أحدهم على كتفه
يبكي كالطفل.
ما أصعب المرض في الغربة!
بعد انقضاء الفترة الحرجةـ
شعر "منير" أكثر وأكثر
بحاجته إلى الزوجة والأهل،
فخابر الأهل وحادثهم عن رغبته
بالعودة والزواج.
ردة فعلهم كانت غريبة جدا،
فقد أحس من كلماتهم
أن عودته إلى الوطن مشكلة حقيقة.
وما أكد أحاسيسه
اتصالاتهم المتكررة غير المعتادة
وأحاديثهم محاولين ثنيه عن العودة
شارحين له مساوئها.
لقد اكتشف فجأة اضمحلال أهمية حضوره.
وأدرك انه كان طائرا مهاجرا
يبحث عن الدفء
فلم يواجه غير البرد،
وعلم أنه قد سقط بهجرته
من عشه إلى الشقاء والوحشة.
شعر بأنه بنيان عتيق
تتهاوى أحجاره بمرور الزمن
ولن يلبث إلا وأن يصبح حطاما.
قرر "منير" بعدها
عدم التفكير ثانية بالعودة.
يقف اليوم على عتبة الأربعين
ليجد أنه مدمن على الغربة،
وأن البقاء هنا هو الخيار الوحيد المتاح له
دون زواج،
دون عائلة،
دون أطفال،
وان الأموال التي جمعها من اجل
البحبوحة في الوطن
استهلكت شبابه وصحته،
ويبدو أنه سيصرفها لاستعادة الأخيرة.
يشعر اليوم أن رائحة النجاح التي
لا يزال يسير باحثا عنها،
مصدرها كان على الدوام أمام عينيه،
وبأنه كان يدور في حلقة مغلقة دون توقف.
الأيام متشابهة و قطار العمر
يمضي دون التوقف
في محطة واحدة ليستريح.
علم أن الأمس بات حلما
بذكريات لا يمكن استعادتها
والغد رؤيا لآمال وأمنيات لا يمكن لمسها،
وما بين الحلم والرؤيا
أضاع أيام العمر
الذي يبكي أفوله.
"منير" هو أحد الموجوعين من الغربة.
بعض أصدقائه ذاب في المجتمع الروماني
وخلع عباءة شرقيته
على باب المطار فارتاح وأراح.
وآخرون بين سماءين وبحرين
لا تزال تعصف بمراكبهم
أمواج من مشاعر الخوف
والحيرة والقلق والحنين إلى الوطن
والضياع في بلاد الغربة.
هؤلاء هم الضحايا،
والجلادون هم أصحاب القرار
في الحكومات العربية
التي لا تراعي الظروف المعيشية لمواطنيها،
مما يضطرهم للسفر والهجرة،
فالفقر في الوطن غربة.